دراسات إسلامية

 

ابن دريد ومعجمه الجمهرة

بقلم:  أ. د/ محمد بلاسي

عضو المجلس العالمي للغة العربية (*)

 

 

 

هو العلامة أبوبكر محمد بن الحسن بن دريد بن يعرب بن قحطان الأزدي اللغوي. ولد في قرية تسمى (سكة صالح) بالبصرة سنة 223هـ، وذلك في فترة خلافة المعتصم، وتوفي سنة 321هـ(1).

     طلب ابن دريد الأدب وعلم النحو واللغة، وتنقل في جزائر البحر والبصرة، وفارس، ذهب مع عمه إلى عمان وأقام بها اثني عشر عاما، ثم عاد إلى البصرة، ثم خرج منها إلى فارس، وهناك كتب كتابه «الجمهرة» بإيعاز من ابن ميكال: (شيخ خراسان)، وقلّد هناك ديوان فارس وكان لاينفذ أمر بدون توقيعه، ثم انتقل إلى بغـداد بعد عزل ابن ميكال وظل بها إلى أن توفي(2).

أساتذته وطلبته:

     تتلمذ ابن دريد على شيوخ أفاضل وعلماء أجلاء، كان لهم فضل كبير في توجيهه وتثقيفه، وتعليمه، إلاّ أنه كان وثيق الصلة بمجموعة منهم، وكان لهم دورهم البارز والخاص في تكوين شخصية ابن دريد العلمية، وهم:

     1- أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني.

     2- أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي.

     3- أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني(3).

     هذا؛ في الوقت الذي تخرج فيه على يديه فحول من العلماء من أمثال:

     1- أبو سعيد السيرافي

     2- أبو الفرج الأصفهاني

     3- ابن خالويه

     4- أبو الحسن الرماني

     5- أبو القاسم الزجاجي(4).

مكانته العلميــة:

     لقد نال ابن دريد بعلمه وفكره شهرة واسعة، وحظي بمكانة عالية مرموقة؛ لذلك فهو يعد حجة في اللغة(5).

     فهذا أبو الطيب اللغوي يقول عنه: «انتهى إليه علم لغة البصريين، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علمًا، وأقدرهم على شعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر واحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وأبي بكر بن دريد(6).

     وروي عن الأسدي قوله: «كان يقال: إنّ أبا بكر بن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء»(7).

     هذا؛ وعلى الرغم من مكانة ابن دريد العلمية إلاّ أنه لم يسلم من ألسنة معاصريه، حتى لقد كان هذا مثار عجب بعض المؤرخين ومنهم ياقوت الحموي؛ إذ يقول: «وعجيبة أن يتمكن الرجل من علمه كل التمكن ثم لايسلم مع ذلك من الألسن»(8).

     فقد روي عن الأزهري في مقدمة التهذيب: «وممن ألف في عصرنا الكتب فوسم بافتعال العربية وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول، وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم (أبو بكر بن دريد) صاحب كتاب «الجمهرة»، وحضرته في داره ببغداد غير مرة فرأيته يروي عن أبي حاتم، والرياشي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، فسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه عنه؛ فاستخف به، ولم يوثقه في روايته»(9).

     أيضًا ذهب ابن جني في كتابه «الخصائص» إلى عدم معرفة ابن دريد بعلم الصرف؛ إذ يقول: «وأما كتاب الجمهرة ففيه أيضًا من اضطراب التصنيف، وفساد التصريف؛ مما أعذر واضعه فيه؛ لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولما كتبته وقفت في متونه وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته. ثم إنه لما طال عليّ أومأت إلى بعضه، وأضربت البتة عن بعضه»(10).

     هذا؛ وقد انبرى العلامة السيوطي بالرد على هذه الشبهات؛ فقد ردّ على العلامة الأزهري؛ بقوله: «قلت: معاذ الله، هو بريءٌ (يقصد ابن دريد) ممّا رمي به، ومن رأى «الجمهرة»، رأى تحريه في روايتــه، وسأذكـر منها في هذا الكتاب ما يعرف منه ذلك، ولا يقبـل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة، بحيث إن ابن دريد هجاه بقوله:

لو أنزل الوحي على نفطويــه

لكان ذاك الوحي سخطا عليه

وشاعر يدعى بنصف اسمــه

مستأهل للصفع في إخدعيــه

أحرقه الله بنصف اســــــمه

وصيّـر الباقي صراخا عليــه

وهجا نفطويه ابن دريد بقوله:

ابن دريــد بقـــــرة                وفيه عيّ وشـــــــره

ويدعي من حمقـــــه         وضع كتاب الجمهـرة

وهـو كتاب العـــين    إلا أنه قـد غيــــــره

     وقد تقرر في علم الحديث أنّ كلام الأقران في بعضهم لايقدح(11).

     أما اتهام ابن جنّي لابن دريد بعدم معرفة ابن دريد بعلم الصرف؛ فقد أجاب عنه السيوطي، بقوله: «مقصوده الفساد من حيث أبنية التصريف وذكر المواد في غير محالها: ولهذا قال أعذر واضعه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر يعني أنّ ابن دريد قصير الباع في التصريف وإن كان طويل الباع في اللغة، وكان ابن جني في التصريف إماما لايُشَـقُّ غباره؛ فلذا قال ذلك»(12).

مؤلفات ابن دريد:

     هي كثيرة ومتنوعة تنوع ثقافته، منها ما أمكن العثور عليه وطبعه وهو يؤدي دوره في المكتبة العربية، ومنها ما هو مخطوط لم يظهر إلى النور بعد، ومنها ما هو مفقود لم يستدل عليه إلاّ عن طريق كتب التراجم والكتب التاريخية:

     1- الأخبار المنثورة.

     2-  أدب الكاتب.

     3-  الاشــتقاق.

     4- الألفاظ المشتركة الواقعة بين العرب العرباء ومعانيها.

     5- الأمالي.

     6-  الأنبــــاز.

     7- الأنواء.

     8- إيجاز المنطق وذخائر الحكمة.

     9- البنون والبنات.

     10- تقويم اللسان.

     11- التوسط.

     12- جمهرة اللغة.

     13- الخيل الكبير.

     14- الخيل الصغير.

     15- الديـوان.

     16- روّاد العرب.

     17- السلاح.

     18- شرح قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير.

     19- غريب القرآن.

     20- شرح لامية العرب: للشنفري.

     21- صفة السرج واللجام.

     22- فعلت  وأفعلت.

     23- الفوائد والأخبار.

     24- اللغات في القرآن.

     25- المتناهي في اللغة.

     26- ماسئل عنه لفظا فأجاب عنه حفظا.

     27- المجتنى.

     28- مجموعة حكم لسيدنا علي بن أبي طالب.

     29- المقتبس.

     30- المقتنى.

     31- المقصور والممدود.

     32- المقصورة.

     33- الملاحق.

     34- من أخبار ابن دريد.

     35- الوشاح.

     36- وصف المطر والسحاب(13).

معجم الجمهــرة:

     هو أشرف كتب ابن دريد وأشهر من أن نتكلم عنه، طبع في «حيدر آباد» بالهند سنة 1344هـ - 1952م، في ثلاث مجلدات، لحق به مجلد خاص بالفهارس بتحقيق وعناية الشيح محمد السورتي، والمستشرق الألماني كرنكو(14).

الهدف من تأليف «جمهرة اللغة»:

     سبق ابن دريد في مجال التأليف المعجمي بمؤلفات كثيرة، فلما رآها، وعرفها عن كثب؛ أدرك أن أصحابها قد حشدوا فيها المستعمل والغريب، الجيد والرديء.

     لذلك أراد أن يقدم عملا جليلاً يخدم من خلاله لغة القرآن الكريم، ويفيد به الدارسين والباحثين، ووجد أن ذلك لايتحقق له إلا عن طريق حشد ما صح فقط من الكلمات، وما اشتهر لدى العرب من المفردات، وترك الوحشي والمستنكر من الألفــاظ(15).

     يؤكد هذا ما قاله ابن دريد في مقدمة كتابه «الجمهرة»؛ إذ يقول: «لم أجر في إنشاء هذا الكتاب إلى الازدراء بعلمائنا، ولا الطعن في أسلافنا، وأنّى يكون ذلك وإنما على مثالهم نحتذي وبسبيلهم نقتدي، وعلى ما أصّلوا نبتني، وقد ألّف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه «كتاب العين» فأتعب من تصدى لغايته وعنّى من سما إلى نهايته، فالمصنف له بالغلب معترف والمعاند متكلف وكل من بعده له تبع أقرّ بذلك أم جحد، ولكنه - رحمه الله- ألّف كتابه مشكلا لثقوب فهمه، وذكاء فطنته وحدة أذهان أهل دهره وأملينا هذا الكتاب، والنقص في الناس فاشٍ، والعجز لهم شامل، إلا خصائص كدراريّ النجوم في أطراف الأفق فسهلنا وعره، ووطأنا شأزه، وأجرينا على تأليف الحروف المعجمة، إذ كانت القلوب أعبق، وفي الأسماع أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة، وطالبها من هذه الجهة بعيدًا من الحيرة مشفيا على المراد(16).

     هذا؛ وقد قصد ابن دريد أن يقدم من خلال هذا المؤلف عملا جليلا يخدم به اللغة العربية لغة القرآن الكريم وذلك بأن يحشد فيه جمهور كلام العرب، مستبعدا في الوقت نفسه الكلمات الوحشية المستنكرة؛ ومن هنا نكون قد عرفنا السر في تسمية ابن دريد في كتابه باسم: (الجمهرة)(17).

منهج ابن دريد في «الجمهـرة»:

     1- اتبع نظام التقليبات الأبجدية، وهو بهذا يعد ممثلا لمرحلة تاريخية مستقلة من مراحل التأليف المعجمي.

     فمثلا مادة: (جبر) إذا أردنا أن نرتب أو نكشف عن هذه المادة وما يتفرع عنها عند ابن دريد ومن سار على نظام مدرسة التقليبات الأبجدية؛ فإننا نقصد أول الحروف ترتيبا، وهو هنا حرف الباء.

     وعلى ذلك يكشف عن هذه المادة تحت كلمتين هما (بجر، برج).

     2- نظر إلى أصول الكلمات؛ ولذلك جرد الكلمات من زوائدها.

     3- راعى عند الترتيب كمية الكلمات؛ فبدأ بالثنائي المضعف وما يلحق به، ثم بالثلاثي الصحيح وما يلحق به، ثم بالمعتل، ثم بالرباعي الأصلي، ثم بالملحق به، ثم بالخماسي الأصلي؛ ثم بملحقاته.

     وختم الكتاب بباب خاص بالنوادر؛ وذلك لقلة ما جاء على ألفاظها من جانب، وتحاشيا منه أن يدخل النوادر في صلب الكتاب من جانب آخر(18).

قيمة معجم «الجمهرة» ومميزاته:

     1- الاهتمام البالغ والكبير بشرح الألفاظ، والاستشهاد على ذلك بالمأثور من القرآن والحديث وكلام العرب الخلص، شعرهم ونثرهم.

     2- الاهتمام الكبير بالقراءات القرآنية وتوجيهها كلما عرض لها.

     3- الاهتمام الزائد والشديد باللغات الواردة عن القبائل العربية، والحرص على نسبتها إلى أصحابها.

     4- الحرص الشديد على الإشارة إلى المعرّب والدخيل من اللغات الأخرى، مبينا لغته (رومية، أو حبشية، أو عبرية، أو سريانية،... إلخ).

     5- ابتكاره نظام التقليبات الهجائية، ومخالفته الخليل بن أحمد في نظام التقليبات الصوتية؛ قد خطا بالمعجم اللغوي خطوة كبيرة.

     6- أمانته العلمية: حيث حرص ابن دريد على ذكر أسماء العلماء الذين نقل عنهم، مشيرًا إلى مؤلفاتهم، وهذه سمة يجب الحرص عليها ولاسيما في عصرنا هذا(19).

     7- اهتمامه بالألفاظ المماتة، ومن ذلك قوله: «امرأة لُبَاخِية: تامة الخلق والجسم وأصل هذا الفعل ممات»(20).

     8- اهتمامه بالنوادر، وأفرد لها أبوابا في معجمه الخالد «جمهرة اللغة»(21).

     رحم الله ابن دريد بقدر ما قدّم للعربية وأفادها من منبع علمه، وفيض معرفته وأسكنه فسيح جناته مع الخالدين.

*  *  *

الهوامش:

*         أ.د/ محمد السيد علي بلاسي: أكاديمي – خبير دولي – عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية – عضو اتحاد الكتاب – عضو المجلس العالمي للغة العربية.

(1)      المدارس المعجمية والمعاجم العربية بين القديم والحديث: د. يحيى محمود الجندي، ص107، الطبعة الخامسة 1428هـ. (بدون ذكر الطباعة).

(2)      اللهجات العربية في جمهرة اللغة لابن دريد: د. محمد عبد اللطيف علي، ص4، (رسالة ماجستير مخطوطة محفوظة في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر في القاهرة).

(3)      المدارس المعجمية والمعاجم العربية بين القديم والحديث: ص108 – بتصرف يسير-.

(4)      المرجع السابق: ص109.

(5)      نفس المرجع: ص110.

(6)      ينظر، مراتب النحويين: لأبي الطيب اللغوي، ص135، 136، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة دار نهضة مصر، سنة 1974م.

(7)      يراجع؛ تاريخ بغداد: للبغدادي، 2/166، ط. دار الكتاب العربي ببيروت، د.ت.

(8)      ينظر؛ معجم الأدباء: لياقوت الحموي، 18/142، 143، ط. مطابع دار المأمون، د.ت.

(9)      يراجع؛ تهذيب اللغة: للأزهري، المقدمة، ص31، تحقيق عبد السلام هارون، مراجعة محمد علي النجار، ط. دار القومية العربية للطباعة بالقاهرة، سنة 1964م.

(10)    ينظر؛ الخصائص: لابن جني، 3/288، تحقيق محمد علي النجار، ط. دار الكتاب العربي، د.ت.

(11)    يراجع؛ المزهر: للعلامة السيوطي، 1/94، 95، تحقيق جاد المولى وآخرين، ط3، دار التراث بالقاهرة، د.ت.

(12)    ينظر المصدر السابق: 1/93.

(13)    اللهجات العربية في جمهرة اللغة لابن دريد: ص 17 – 21، - باختصار -.

(14)    المرجع السابق: ص18.

(15)    المدارس المعجمية والمعاجم العربية بين القديم والحديث: ص122.

(16)    الجمهرة: لابن دريد، 1/3، ط. دار صادر ببيروت، د.ت.

(17)    المدارس المعجمية والمعاجم العربية بين القديم والحديث:  ص121.

(18)    المرجع السابق: ص123.

(19)    نفس المرجع: ص127، 128.

(20)    ينظر، اللهجات العربية في جمهرة اللغة لابن دريد: ص28. والجمهرة: 1/239.

(21)    يراجع؛ المرجع السابق: ص29. والجمهرة 3/269، 419، 473.

*  *  *



(*)         3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق – جمهورية مصر العربية.

             drmohammadplasy@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1437 هـ = يناير – فبراير 2016م ، العدد : 4 ، السنة : 40